القلم العجوز

اعلان 780-90

القلم العجوز


على سطح المكتب وضع أحد الكتاب الواعدين قلمه، وكان بجواره قلم حبر مذهب، لم يُكتب به منذ زمن بعيد، لم يتكلم هذا القلم العجوز مع أحدٍ من قبل، لقد مرت سنواتٍ على اخر حديثٍ جرى بينه وبين قلمٍ اخر، كان في وقتها قلم جاف، كان يثرثر كثيراً وكلامه غير مترابط، يتكلم عن ارقام ومشاكل ومؤامرات، لم يكن حديثه الا ضجيج، ومن حينها لم يتسنى له التكلم، كان قد تمنى ان يعود ذلك القلم بضوضائه ليخلصه من وحدته الطويلة.

حوار مع القلم اليافع

حانت الفرصة اخيراً لفتح الحوار مع القلم الجديد، ولكنه عجز عن الكلام، وكان بانتظار ان يبدأ القلم اليافع الحديث، وبينما هو ينتظر، سمعه يردد عبارات غزل، قاده الفضول الى الاستماع اليها، كانت:

” حبيبتي، نهاري مظلمٌ ان لم تشرقي فيه، وكل الطعامِ ترابٌ، مالم تطبخيه وتقدميه لي، اشعرُ أنى يتيمٌ من غيركِ، وساعاتُ نهاري لا تنتهي ان فارقتني”.

فقال له القلم العجوز: هل انت من كتب هذه الكلمات؟

فأجاب القلم اليافع: نعم كتبتها، ولكني لست من الّفها، ما انا الا رسول، يترجم وحي الكلمات، رسالتي لم تكن في يدِ طالبٍ في المدرسة، ولم تكن بيدِ طفلٍ يرسم على الجدران، بل كانت بيدِ حبيبٍ يكتبُ في حبيبته، اسطراً من العشق، وابياتاً من الغرام، حتى ظننتُ أني اكتبُ سِفرَ الخلودِ من العهدِ القديم، او ايةٌ من آياتِ الكتابِ الكريم.

كلمات القلم العجوز عن الحب

كانت كلمات القلم اليافع قد اسكتت القلم العجوز، لم ينطق باي كلمة، سكت وهو يبتسم، وكان القلم اليافع قد تعجب من هذا السكوت وهذه الابتسامة، ولم يستطع الصبر ليسأله عن السبب، ولكن القلم العجوز تكلم فجأة وقال:

أتظن بانك رسول الكلمات؟ هل تعتقد بان صاحبك عاشقٌ ولهان؟ هل سمعت ما كتبته لتلك السمراء المعلقة صورتها في منتصف الجدار؟ كان الواقف الى جانبها من الّف هذه العبارات:
“حبيبتي، ومعشوقتي، وملِكتي ومليكتي، انتِ نهاري لأنكِ شمسي وضيائي، انتِ قمري وليلي وكل حياتي، انتِ كلُ ما انا عليه، وما انا صائرٌ اليه، انتِ عقلي، وانتِ قلبي، وانتِ جنتي في محياي وعند موتي، وكل الوجود اراه فيكِ، وقلبكِ هو الفردوس، وانا اسكن في هذه الفردوس، انتِ نجمةٌ ولستِ نجمة، بين ألف نجمةٍ ونجمة، لم تستطع ايُ نجمةٍ من ان تحجب نوركِ، وكأن ضيائكِ هو سوركِ، وكأن سوركِ ذراعٌ غطى جميع الأفق الطويل، واشراقتكِ كانت الاكليل”
أيها القلم اليافع، لقد ترجمتُ صمتَ العقول، فانا اجيد لغة الوحي، وأبدعُ في استخراج الاحرف والكلمات، من آلاف المعاني المبعثرة في صندوق الحكايات القديمة، انا مبدعٌ في ان أكون قلماً جسوراً.
هل تعرف كيف كان صاحبي يتغزل؟ وكيف كان فنجان القهوة يتمايل مع احاسيسه الشفافة؟ كان يترك في الشباك فتحة صغيرة، ليسمح للهواء بمراقصة الستارة، كان كل شيء في الغرفة يسكن الى كلماته العذبة.

تحير القلم اليافع كثيراً، ثم قال:

أخبرني مقطع اخر من كلماته، واعدك أني سأصمت الى الابد، اقرأ لي فكلماتك ليست كما عهدت ان اكتب او ان اسمع، ووافق القلم العجوز على ذلك، ثم قال له اسمع اذاً:

“قلبي البارد، لا يستطيع أي بركان ملتهب ان يذيب جليده المتصلب، اشد برودة من القطبين، حتى ان عينيّ امتنعتا عن البكاء، حيث لا دموع لتذرف في هذا الجو القاسي، وفي هذا الفراغ الكوني العظيم، اشتعلت شمعة صغيرة، كانت شعلتها تكبر وتصغر مع نبضات قلب تلك السمراء الطيبة، شعلة لا تتعدى حجمها حبة الحمص، او سواد عين عصفورة صغيرة، ترفرف بجناحيها عند عدن الخلود، شعلة اذابت هذا الجبروت، اسرت ذلك المارد العملاق، كل هذا الفضاء الكبير، استطاعت تلك الشمعة ان تعيد العفريت الى مصباحه من جديد، شعرت بطفولتي تعود، شعرت بحنان امي يحتضن جسمي الضعيف، شعرت بكلمات ابي وهو يشجعني على النهوض، شعرت بإخوتي وهم يقفون معي في السراء والضراء، شعرت بالأصدقاء، شعرت بان لا شيء في الحياة يستطيع ان يصيبني بمكروه، ما دام قلب معشوقتي ينبض في قلبي الذي كان قبلها متجمد.”
وكما وعد القلم اليافع، سكت عن الكلام، حيث لم يجد أي عباراتٍ تستطيعُ الصمودَ امام أمواجِ بحرِ العشقِ اللامتناهي، ولم يجد فُلكاً يستطيع مجاراةَ محيط الحب، ليصل الى ساحلِ قارة السكون.

اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد

مواضيع ذات صلة

فتح التعليقات

اعلان اعلى المواضيع

اعلان وسط المواضيع 1

اعلان وسط المواضيع 2