النظام الإداري الفرعوني

اعلان 780-90

النظام الإداري الفرعوني




من أكثر القصص التي وردت في القران الكريم، هي قصة نبي الله موسى عليه السلام وبني إسرائيل وفرعون مصر، ولعلنا نأخذ من هذه القصة العبرة فيما يخص الجانب العقائدي، بينما هنالك جوانب أخرى على كل ذي اختصاص ان يبحث في تفاصيلها ليستخلص الفائدة من تكرار هذه القصة في القران الكريم.

ونحن بصدد معرفة الجوانب الإدارية لفرعون مصر وما أسباب فشل هذه الإدارة على المستوى التطبيقي والعملي والذي من اجله بعث الله تعالى اليه نبيين وهما موسى وأخيه هاون عليهما السلام. ويمكن تناول الموضوع من محورين وهما:

المحور الأول: صفات الفرعون وشخصيته في القرآن الكريم

كانت الآيات الشريفة في كتاب الله الكريم تشير الى بعض الصفات التي كانت سبباً في فشل الفرعون في حكمه وادارته، وبالطبع فهي كانت صفات على أي مدير ان يتجنبها وان يبتعد عنها حتى لا يصبح مديراً فاشلاً وبذلك ينتهي بالمنظمة التي يديرها الى الهلاك والهاوية.

اولاً: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿24 طه﴾
وأول الصفات السلبية لأي مدير ان يكون طاغياً، والطغيان هو ببساطة تجاوز كل الحدود المقبولة، فلا يمنعه شيء من الضوابط والقوانين والأنظمة والأعراف والتشريعات الوضعية والالاهية، من فعل ما يريد فعله، فتجده متآمر وحقود، ولا يقبل المنافسة ولا يقبل المناقشة.
وهذه الصفة بالطبع هي نتيجة لتراكم مجموعة من الصفات والظروف والعوامل التي تجعل من الشخص ان يصبح طاغياً، لينتقل بهذه الصفة من وظيفة المدير الى وظيفة رئيس عصابة، مختصة بالقتل وانتهاك الحقوق واتهام الاعراض وقذف المحصنات والمضايقة على الشرفاء والفقراء. ((…مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ…))
ثانياً: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ﴿60 طه﴾
فرعون لا يقبل النصيحة ولا يقبل النقاش، فهو مغرور ومتبع لهواه الى درجة انه يستغل كافة القوانين ليحولها الى جانبه ومصلحته، وكنتيجة لهذه الممارسات السيئة فانه لا يعمل وفقاً للمصلحة العامة بل يعمل لمصلحته الشخصية فقط. ((…قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى…)) فبعناده وكيده واستبداده يظن بانه ناجح ومتفوق بينما العكس هو الصحيح.
ثالثاً: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿23 الشعراء﴾
يفشل المدير عندما يتصف بتقليل شأن من يتحدث معه، فهو يستخدم العبارات والتساؤلات التي تجعل من الشخص المقابل له يشعر بالاستصغار، ويحاول ان يرتب الاخرين على انهم اقل منه مرتبة ودوناً عنه بالمستوى، وفي واقعنا هناك فرعون معلم، وفرعون مدرس، وفرعون طبيب، وفرعون دكتور، وفرعون أستاذ الخ من الفراعنة الذين يتعاملون مع طلبتهم ومع مراجعيهم ومع موظفيهم بهذه الطريقة الحقيرة، فيشعرون الاخرين بأنهم نكرة امام عظمتهم الزائفة.
رابعاً: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ ﴿4 القصص﴾
عندما يتعامل المدير مع من معه على أساس ينتمي ولا ينتمي، فانه بذلك يشتت الاخرين ليخلق جواً من عدم التوازن في المنظومة الإدارية، فالفرعون كان يعتني بالذين ينتمون الى دائرته ويجعل القوانين تتناسب مع حاجياتهم ومتطلباتهم، بينما الدائرة الأخرى كان يريها الوجه الاخر من عدم الاكتراث والملاحقة والمحاسبة، فالإدارة العوراء هي إدارة التمييز بين الافراد على أسس المحسوبية والطائفية والعائلية وغيرها، ولا يوجد من ينكر وجود هذه الحالة السلبية في مؤسساتنا كافة دون استثناء.
خامساً: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ ﴿38 القصص﴾
من حماقات المدير الفرعوني بانه يظن بنفسه انه الاعلم، رغم انه غبي، ونتيجة لغبائه فانه يسد ذلك النقص في ادعاء أمور هو غير قادر على فعلها، وينسب أي نجاح لنفسه منكراً الاخرين، فهو يصدق الكذبة التي يطلقها للآخرين. وهذه ايضاً من الصفات التي يتصف بها المدراء السيئون في المؤسسات الإدارية، فلا تجد في خطابهم أي دور للعاملين معهم، وكأنما الاهرامات لم يبنها المصريين بل الفرعون الاله (كما كان يظن). ((وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)).
سادساً: فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا ﴿١٠١ الإسراء﴾
ماذا يفعل المدير الفاشل للآخرين الذين لا يوافقونه الرأي؟ بكل بساطة يبحثون في ماضيهم ليحاولوا احراجهم في أخطاء لعلهم ارتكبوها فيما سبق، وان لم يجدوا تلك الأخطاء التي يبحثون عنها يبدئون بتلفيق الأخطاء وايضاً يظهرون جانبهم الإبداعي في تحريف الحقيقة، واخيراً يلجئون الى اتهامهم بصفات غير مقبولة اجتماعياً، وصفات تقلل من شأنهم ومن احترام الناس لهم. ((وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20))).

المحور الثاني: أسباب طغيان فرعون مصر

اولاً: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ ﴿٤٩ البقرة﴾

اليد الضاربة لفرعون، كانت الفئة المقربة منه، والتي كانت تنفذ ما يطلب منها دون نقاش، وهو السبب الأول في وصول الفرعون الى الطغيان وادعاء الالوهية. فالمشكلة التالية تكمن فيمن يحيطون بالمدير الفاشل الذي يزداد فشلاً بهؤلاء الهمج الرعاع الذين يزيدون الطين بلة. وهم بلا شك من المستفيدين منه او ممن اعتادوا ان يكونوا عبيداً ساكتين طائعين تحت ذريعة الواجب والقانون والوظيفة وغيرها من الذرائع الواهية.
ثانياً: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴿١٠٩ الأعراف﴾
التشجيع من قبل السيئين وممن يسمع الفرعون لرأيهم ويستأنس بمشورتهم وهم المقربون منه، والذين لا يقولون الا ما يقربهم من الفرعون وكذلك بما يبعد المنافسين لهم على المنافع والمصالح. وهم ايضاً ينتهجون نفس المنهاج في التشهير والتدليس والكذب والادعاء بالباطل وتصيير الحق باطلاً وتصيير الباطل حقاً. ((وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ))، ((إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ)).
ثالثاً: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ﴿١٢٧ الأعراف﴾
عندما يكون المحيط بالمدير ممن يحرض على الفساد والضرر بالآخرين تحت عناوين متعددة، مع وجود اذن سماعة للفتن والكذب والنميمة، فان المدير يزداد سوءً وفشلاً وخاصة ان كانت كلمات التحريض تلاقي في نفسه الاستحسان لتلبي حاجته لإكمال النقص في شخصيته، والتي لا تكتمل الا من خلال اذلال الاخرين والسعي الى تدمير من يعارضه وينتقده ويقف في وجهه او يطالب بحقه الشرعي والقانوني.
رابعاً: فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ﴿44 الشعراء﴾
التمجيد والتفخيم للمدير من قبل المحيطين به أحد الأسباب التي تنقل المدير الى خانة الفشل، فهي مع ما في قلبه من الخيلاء والغطرسة والتكبر، فانه يسمع كلام المتملقين الذين يصورون المدير وكأنه في مركبة فضائية وتحت اصبعه زر نهاية العالم، ولكونه متفضل على الإنسانية فانه لا يضغط هذا الزر. والغريب في الامر انه يصدق ما يقوله المتملقون له ويكافئهم على ذلك. وهم في زماننا منتشرون بشكل ملحوظ في مؤسساتنا، حيث لا صديق لهم ولا امان، وهم مصداق قوله تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام ((فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ)).
خامساً:وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴿39 العنكبوت﴾
مصدري الفشل للمدير هما صاحب القوة، وهو هامان في مثالنا عن الفرعون، انه شخصية قاسي القلب والذي لا يتمتع بالإنسانية، ومستعد لفعل أي شيء لإرضاء الفرعون، انه مثال على واقع المستهتر بأرواح الناس وبكرامتهم، مثال للشخص الذي لا يمتلك أي رصيد من الاخلاق ويحول الأمور دائماً الى التهديد والوعيد واستعمال لغة القوة والسلاح والبطش وغيرها ليخوف من يحاول التقرب منه او مواجهته او المطالبة بحقه. والمصدر الثاني هو صاحب الأموال، وهو قارون، أي مسؤول المالية والحسابات في وقتنا الحالي، انه موزع العطاء والمكافئات، انه صاحب الكلمة الفاصلة في تحديد مصير المؤسسة. وهكذا فان المدير بحاجة الى هذين المصدرين عند وصوله الى اقصى مراحل الفشل الفردي، لينتقل بمساعدة المستهتر والمسؤول عن الأموال الى اخر مراحل الفشل الإداري وهو الفشل الجماعي، فيرتبط بذلك مصير المدير معهما ارتباطاً طردياً، وأبرز ما نلاحظه في هذه التركيبة الفرعونية ان كلا المصدرين متفاهم ومتناغم ويسير على وتيرة ثابتة تضفي طابع الرضا في قلب المدير. ((إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)).
وبعد ان تناولنا المحورين الخاصين بالفرعون والمحيطين به، بقي لدينا شيء واحد علينا ان نعرفه، وهو على من يقع اللوم في فشل إدارة الفرعون؟
1. يقع على الفرعون نفسه.
2. يقع على المحيطين بفرعون كهامان وقارون.
3. يقع على اليد الضاربة لفرعون وهم المتملقون وغيرهم.
4. يقع على بني إسرائيل الذين تقبلوا الواقع دون حراك.
5. يقع عليهم جميعاً.
ومن خلال كتاب الله الكريم نستطيع ان نجد ان اللوم يقع على الفرعون نفسه، ((وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى )) ﴿79 طه﴾، وهذا يدل على ان المدير ملام مهما حاول ان يلقي باللوم على غيره، فرغم ان الفرعون عمل ضمن منظومة إدارية كبيرة وكانت له ايدٍ تبطش واناس تحرض وأخرى تتملق، ولكن رغم كل ذلك فانه بالنتيجة كان قادراً على تغيير ادارته الى الأفضل كما فعل ذو القرنين، حيث استثمر ما كان لدى الفرعون الى طاقة إيجابية من خلال منهاج معتدل مع الاخرين،

قال تعالى ((قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا))، فكان هدفه هو العطاء لا الاخذ، وبذلك استطاع ان ينجح في ادارته والتي بالطبع لم يكن لينجح بها لولا المحيطين به، ولكن الله تعالى لا يذكر المحيطين به، لأنه وبكل بساطة لا يستطيع الانسان ان ينجز عمله الا من خلال الرجوع الى مصدر واحد يمثل الإدارة،
وهذا المصدر يحتاج ايضاً الى مصدر اكبر منه وهكذا، وكل مصدر من هذه المصادر يتحمل مسؤولية نفسه ومن يتبعه، ولهذا نجد ان الله يحشر الناس بمن تولوا في الدنيا ((يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ))، فالابن يتبع إدارة امه، والام تتبع إدارة زوجها، والزوج يتبع إدارة مسؤوله في العمل، والمسؤول يتبع إدارة من هو مسؤول عنه لنصل بعد ذلك الى إدارة الوزير والمحافظ ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان ورئيسه، ومازالت الإدارة تحتاج الى توسع اكثر واكبر، واخيراً نعود الى ما بدئنا به وهو ان المدير هو من يتحمل المسؤولية في النجاح والفشل، فالابن ان تعرض لحادث خارج البيت فستلام الام لتقصيرها في ادارتها للبيت، والام ان تعرضت للتحرش فسيلام الزوج الذي يترك عائلته دون طعام، وان سرق الزوج فسيلام مسؤوله في العمل لأنه لا يعطيه حقه، وهكذا تستمر حلقة اللوم، وعلى كل مدير ان يراجع نفسه قبل ان يصل الى اليوم الذي يقول عنه تعالى ((وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)).

والحمد لله رب العالمين

اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد

مواضيع ذات صلة

فتح التعليقات
إغلاق التعليقات

0 الرد على "النظام الإداري الفرعوني"

إرسال تعليق

اعلان اعلى المواضيع

اعلان وسط المواضيع 1

اعلان وسط المواضيع 2